الأحد، 27 أبريل 2014

(( التقليد مقبرة الإبداع و داء العصر ))


هل تعلم أن كل إنسانٍ في هذه الحياة هو رسَامٌ في الحقيقة وليس بالضرورة أن يكون رساماً يرسم لوحاتٍ فنية لكنه يرسم خطاً في الحياة ومنهاجاً كاملاً لحياته منذ نعومة الأظفار وحتى الكهولة هذا المسار الذي يرسمه هو ذاكرته التي ينقشها في جدار التاريخ والذي سيحفظ له حتى بعد موته فهو كالأيقونة أو العلامة المميزة التي يعرف بها الإنسان ويتميز بها عن أقرانه في حياته وبعد مماته.

الناس كثيرون يولدون ويموتون و يأتي من بعدهم آخرون يولدون ويموتون فلماذا لايذكر التاريخ إلاَ القليل منهم؟, ومعرفة الجواب تكون بمعرفة تلك القلة القليلة التي ذكرها التاريخ ومن ثم معرفة مسارات حياتهم التي رسموها ونقشوها لأنفسهم على جدار ذلك التاريخ ولن تجهتد كثيراً في تقصي مساراتهم لتعلم أنها ليست إعتيادية ولا مكررة بل أن كل واحدٍ من هؤلاء يعد أنموذجاً أوحداً ليس له مثيلٌ أو شبيه وإن وجد له مثيل أو شبيه فلن يكون أبداً بمثل عظم أو مكانة الأصل فالأصل دائماً مقدمٌ على الشبيه والمثيل فهو الأساس وما عداه مشتقٌ منه أو مبنيٌ عليه ولم يكن تشبيهي للأنسان بالرسَام في بداية الحديث تشبيهاً إعطباطياً فهو أقرب مثال يفهم منه الكلام فلو أن رسًاماً ما أبدع لوحةُ من اللوحات حتى  أشتهرت و نالت إعجاب الناس في كل قطر ثم جاء من بعده رسامٌ آخر وأمتلك القدرة والموهبة لتقليد تلك اللوحة تقليداً دقيقاً يقارب الكمال فهل ستحوز لوحته المقلدة بإتقان ذات القيمة ونفس مكانة اللوحة الأصلية؟, الجواب بالتأكيد هو لا, بل لن تدانيها ولو حتى قليلاً وستشهد أن تلك اللوحات الأصلية تباع بملايين الملايين وتوضع وتحفظ في القصور والمتاحف الكبرى بينما تباع اللوحات المقلدة في الطرقات وبأبخس الأثمان ليس لأن رسَاميها قد إفتقدوا لعاملي المهارة و الموهبة ولكن ببساطة لإفتقادهم للعامل الأهم وهو عامل (الإبداع).

كلمة إبداع ليست كما يعتقد الكثيرون و يجعلونها في سياق كلامهم دلالة على إتقان العمل أو تجلي الموهبة لدى البعض فالإتقان والموهبة شيء والإبداع شيءٌ آخر, فالإبداع مفهومٌ يعني أن تصنع شيئاً على غير مثالٍ سابق، ومن دون أن تتلقى من أحد معلومة ما و لم يسبقك إليه أحد وليس مهماً بعد ذلك أن يتبعك إليه أحد المهم أن لاتسبق إليه, والبديع هو إسم من أسماء الله المذكورة في كتابه الكريم قال تعالى : (( بديع السماوات والأرض )) الأنعام, فهو البديع المطلق الذي أبدع الخلق من غير مثال سابق, وكثيرون هم من يملكون إتقاناً عالياً أو موهبةً فذةً لكن قليلون هم من  نرى إبداعاتهم التي لم يسبقهم إليها أحدٌ من الناس والإبداع أيضاً ليس قاصراً على الفنون والحرف بل يتعدى ذلك ليشمل كل قدرات الإنسان وإمتيازاته في مناحي الحياة فالتاريخ لايذكر لنا مبدعي الفنون وحسب ولكنه أيضاً يذكر لنا مبدعي الحرب والسلام والسياسة والإقتصاد والعلم والمعرفة والأدب وغيرها من مناحي الحياة الشتى, وصحيحٌ أن الناس أجناس وقدرات كما خلقهم الله وأعطاهم من القدرات والميزات لكنني على يقين وإيمانٍ شديد أن كل إنسانٍ خلق مع قدرة أو مزيةٍ ما تميزه عن غيره من سائر الخلق وأن كل ما عليه هو معرفة هذه القدرة والإيمان بها ثم السعي لصقلها وتطويرها وإستخدامهاً إستخداماً أمثل قبل أن يصل بها إلى مصافي الإبداع والتميز.

أخيراً فإن مفهوم الإبداع هو النقيض التام والمباين لمفهوم التقليد وأن كل ما هو تقليد لايمكن وصمه بالإبداع مهما بلغ من إتقانٍ ودقة فالتقليد يبقى فرعاً دائماً والإبداع يبقى أصلاً يحوز كل التميز و الإعجاب و التقدير, على هذا المفهوم وبهذا المعيار يسير الإنسان بخطاً ثابثة نحو التميز والإبداع بل في أغلب الأحيان لايتطلب التميز والإبداع عظيم الجهد كما يظن البعض فلربما لم يتطلب سوى إبتعاد الإنسان عن تقليد الآخرين وحسب والإكتفاء بأسلوب حياته الطبيعي والذي قد لايكون طفرةً في حد ذاته ولكنه سيبقى متميزاً بكل الأحوال وعادةً فإن من يميل في سلوكه وأسلوب حياته إلى تقليد الآخرين وإستنساخ مساراتهم هو ذلك الشخص المشوش الرؤية ضعيف الشخصية والمفتقر لمقومات التميز والإبداع فهو يلجأ بديلاً لذلك إلى نسخ الآخرين بصورةٍ من الصور ولعل أبشع هذه الصور هو النسخ التام للفكر والأهداف و المظهر والسلوك.

واليوم فإننا نشكوا يقيننا وتحديداً في أوساط شبابنا من هذه العقلية الناسخة لمسارات الغير وإختياراتهم بغض النظر عن صحة تلك المسارات من عدمها ولن أعزو السبب في ذلك إلى غياب الوعي وضعف التعليم فقط أو إلى سطوة الإعلام العربي والغربي الأجوف الذي يقدم للشباب نماذج ممسوخة على أنها نماذج جديرةٌ بالإحتداء والإقتداء ليس هذا وحسب بل لعل السبب الأكبر الذي يقف وراء هذه الظاهرة ويسهم في إدكاءها وتغلغلها هو غياب الوعي الديني عند شبابنا المسلم, الدين الذي يحمل في كنفه الأخلاق الفاضلة التي تحمي الشاب من إستنساخ نماذج ممسوخة كالتي نراها اليوم في الإعلام وشاشات التلفزة وذلك لإفتقارها ومساراتها إلى الأخلاق الفاضلة التي يتحلى بها المسلم, الدين أيضا الذي يحمل بين طياته أوامر المولى ومناهيه الحاثة على الفضائل والناهية عن الردائل, الدين الذي يقدم للشباب المسلم أعظم النماذج الجديرة بالإحتداء والإقتداء يتصدرها نبينا الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه وتتبعة نماذج عظيمة كالصحابة الكرام رضوان الله عليهم وشخصيات الإسلام العظيمة وأعلامه في العلم والقيادة عبر العصور الإسلامية المجيدة وهي الأحق بالإحتداء وبالإستنساخ لمساراتها العظيمة وبرغم من أن إستنساخ مسارات هؤلاء العظام هو فلتةٌ في حد ذاته في هذا الزمان الغابر إلاَ أن الدين لم يغفل عنصر التميز والإبداع عند أجيال المستقبل حتى وهو يحثهم على الإقتداء بتلك الأمثال العظيمة فيحدث المصطفى صلوت ربي وسلامه عليه عن أقوام يأتون من بعده سمَاهم أخوانه أو أحبابه وأن زمانهم المتمسك فيه بدينه بأجر خمسين فسأل أصحابه رضوان الله عليهم : ( منَا أم منهم ) قال : ( منكم ) أي بأجر خمسين من صحابته ومن منَا اليوم يدنو من أجور أولئك العظام وبلائهم في الدين ونصرته لكن النبي يحفز أمته من بعده على مناشدة الأجور ومسابقة العظام من صحابته مؤكداً بهديه الموحى من رب العالمين على مبدأ التميز والإبداع وليس المماثلة والإستنساخ وحسب.

وعلى ذلك أتوجهه برسالتي وبكلامي هذا إلى شباب الأمة الغارق في أوحل الإستنساخ والتقليد لنماذج مقيتة أنه ليس من العقل أولاً ولا من الدين ثانياً تقليد نماذج لاترقى في منهجها ومساراتها إلى التعقل والتخلق فضلاً عن الإبداع والتميز وإن ذلك التقليد المقيت في الكلام والحركات والملبس ليس تميزاً أو إبداعاً على الإطلاق فالكل لا يراك بعين الرجل المنبهر والمعجب بصنيعك بل بعين الرجل الذي يزدري هذا النسخ البشع لنماذج مسخوطة ولكن ينبغي التنبه أن التميز والإبداع لايعني مخالفة الغير وحسب وعلى مبدأ المنفلتين (خالف تعرف) و الذي يجعل المرأ قابلاً للنشوز والإنفلات لمجرد نشود التميز وإستجلاب النظر فمجرد إستجلاب النظر إليك بصورةٍ ما هو ليس ذلك التميز والإبداع الذي ننشده ولكن أيضاً إستجلاب إحترام الآخرين لشخصك ولمنجزاتك الفريدة التي أبدعتها دون سائر الناس من حولك فهذا هو وصف الإنسان المبدع فإحرص أن تكون مثله.

* ملحوظة :
(( هذه الدعوة أوجهها لنفسي قبل غيري من الناس فهي تنقصني كما تنقص غيري ))




عبدالرحمن عليوة