الأحد، 10 مارس 2013

(( مواقف معبرة )) ... الحلقة الأولى.

                          (( حوار مع رجال الأمن المركزي ))

كنت أتمشى قليلاً كعادتي بعد صلاة الفجر قرب منزلي في مدينتي عدن بعد ليلةٍ عصيبة عشنا خلالها على وقع ذوي الرصاص وهو يزمجر من كل حدب وصوب ونحن بين نائمٍ شبه مستيقظ وبين مستيقظٍ لم يدق رائحة النوم متسائلين عن سبب ذلك الرصاص المنهمر ومتى عساه (لاسمح الله ) ينهال على أسقف بيوتنا المهترئة,لكن الله سلَم وهو خير الحافظين.

على غير عادتي في المسير نحو الكورنيش الجديد (كورنيش المحافظ) فقد حولت وجهتي نحو جولة كالتكس التي يتجمع بالقرب منها عادةً أطقم للجيش أو الأمن المركزي علَني أجد عند بعضهم جواباً شافياً لتساؤلاتي حول سبب ذلك الذوي بالأمس وساعدني على هذه الخطوة الجريئة هدوء ذلك الصباح وسكونه وكذا حركة السيارات التي عادت لطبيعتها ككل صباح سرت وأنا أجرَ خطواتي جراً نحو أحد أطقم الأمن المركزي فهؤلاء بالذات أقصد الأمن المركزي لايتمتعون بسمعة جيدة بيننا نحن أبناء مدينة عدن نظراً لما أرتكبوا من فضاعات في حق أبناء عدن إبان بداية الثورة وحتى يومنا هذا.

على مقربة من الطقم قابلني رجل أربعيني مسنداً ظهره إلى عمودٍ لإحدى اللوحات الإعلانية بالقرب من الشارع لم يبقي عليه من الزي العسكري سوى سرواله المبقع مع فنيلةٍ بيضاء أو شبه بيضاء,إلتفت إليَ وهو يفرك شاربه العريض مستمتعاً بمضغ مابقي في خده من تخزينة البارحة,خاطبه البعض بقولهم : (يافندم ) فاعلمت على الفور أنه كبيرهم الذي علمهم السحر,إقتربت منه بتردد وألقيت عليه التحية.

بادرت قائلاً : (السلام عليكم يافندم,وصباح الخير...)

الفندم : ( وعليكم السلام والرحمة،... صباحك,... منين جيت؟! )

أجبت بتردد : ( لا كنت أصلي الفجر في المسجد اللي وراكم دا خلف العمارة البيضة وقلت أتمشى قليل لاعندكم,...ليش في شي لاسمح الله؟! ممنوع التجول واللا حاجة؟!....)

الفندم : ( لا لا ماشي...أتمشى براحتك جي لاهانا وروح لاهاناك عادي عادي مابش شي الدنيا آماااااان....)

استدركت قائلاً : (والله يافندم مش باين إنو أمان بعد الضرب هذاك حق أمس الله يستر والله ما ذقنا النوم....بالأمارة إيش اللي حصل يافندم ؟إشتباكات واللا إيش؟!! )

هنا التفت إليَ الرجل مبتسماً إبتسامةً عريضة ومبدياً بعضاً من بقايا القات بين أسنانه, قائلاً : ( ليش... فزعتوا؟! )

كان بالفعل سؤالاً غبياً منه لكن لم يكن هنالك مفرٌ من الإجابة عنه : ( خفنا؟!!.... والله ما ذقنا النوم يافندم,...ليش من جد إيش اللي حصل يافندم؟!... عسى خير؟...) .

الفندم مجيباً عن سؤالي : ( هذا ياطيب تعليمات بإطلاق الذخيرة في الهواء إحتفالاً بخروج الزعيم المشير علي عبدالله صالح من العناية المركزة ونجاح العملية... يعني خلاص مابش خطر عليه ).

وقفت متسمراً لوهلة فقد فاجئني بوقاحته المفرطة ,بماذا عساي أرد على هذا الرجل المتنمر؟!! ,حاولت استعادة رباطة جأشي قائلاً : ( يالله...خير إن شاءالله ..الله يعين.) قررت معاودة المسير عندما إقترب منا نيفٌ من الجنود ممن كانوا بالقرب من السيارة المصفحة ربما حباً للإطلاع على مايدور بيني وبين قائدهم من حوار وقد رسموا جميعاً على محياهم إبتسامةً لطيفة.

كنت أستعد لمعاودة المسير عندما بادرني الفندم بسؤاله هذه المرة قائلاً : ( أنتم تشتوه يموت ؟...)

فقلت متعجباً : (من؟!..) , فأجابني صحبة أحد جنوده : ( الرئيس) ,قلت : ( يافندم نحنا شعب طيب ما نتمنى الشر لأحد... لا لنا ولا لغيرنا... الرئيس الله يشفيه والله يكون بعون الجميع )

بادرني الفندم مجدداً وقد إعتدل في جلسته : ( قدو يقولكم عاد أكمل الفترة حقي وأسيب لكم الجمل بما حمل وأنتو ترفسوا.. أرحل والاَ أرحل لما بالله لما يرحل؟ إيش صومالي هو يمني ودي بلاده ؟! قلك يرحل ).

شجعتني رغبته في الحوار معي حول الرئيس والثورة في حين أنني لم أكن أنشد سوى إجابةً عن ماجرى بالأمس فاستجمعت مابقي من شجاعةٍ لدي وقررت خوض هذا النقاش. بادرته قائلاً : ( يافندم نحنا مش مشكلتنا الرئيس بحد ذاته نحنا مشكلتنا الفساد.. الفساد اللي بكل مكان ,أنا مثلاً يا فندم قدامك عمري 25 سنة وقدنا في السنة قبل الأخيرة من التخرج من الهندسة وباتخرج وأنا مانش داري باحصل وظيفة ولا بجلس أنا وشهادتي في البيت والسبب هو دا الفساد اللي في البلاد ).

أجاب الفندم بصخب : ( منين تشتوه يديلكم وظايف ؟ من جيبه ؟ دي هي البلاد قدامكم مابش بها وظايف ... لو كان بو وظايف كان أنا أول واحد أفلت العسكره وأجلسلي بمكتب ومكيف ... ها دا أنا جالس بالأرض ... بس أنا داري أنتو تشتو إنفصال وترجعوا الإشتراكي حقكم ؟...).

أجبت متعجباً : ( من قالك يافندم نشتي إنفصال ونشتي الإشتراكي؟!!... يا فندم أهل عدن وأهل الجنوب ناس طيبين ومتعلمين ونحنا سعينا للوحدة بأنفسنا وماخلا الناس تخرج وتقول نشتي إنفصال إلاَ الظلم والفساد والناس اللي كانت زمان تلعن حكم الإشتراكي وتتمنى الوحدة اليوم من بعد الظلم والفقر والفساد أصبحت تسبح بحمد الإشتراكي وتقول وينك يا إنفصال ),قاطعني قائلاً : ( ما الفقر فكلنا فيه أخوان سوا...إنَا تقول إني تاجر وعندي أملاك وفلل والله صدق يابني المره في البلاد تطلبني راشان للجهال قدلها شهر وأنا مريع للمعاش لوما ينزل... ما دا الفقر كلنا سوا لاتحسب).

لم أكن في موضع يجعلني أصدق الرجل في كل مايقول لكن سابق معرفتي بأحوال إخواننا في الشمال تجعلني أكثر تقبلاً لما يقول لكن مالم أستطع تقبله هو أنه وبفرض صدق مايقول حول فقره وعوزه فقد كان الأولى به أن ينتفض هو الآخر على واقعة المزري لكنه وياللعجب يدافع بإستماته عن هذا الواقع المزري الذي يعيشه, فقد وجدت أنني أقف أمام رجل يمتلك نفس الدوافع والأسباب التي جعلت مني ثائراً ولو بأضعف الإيمان بالقلب على هذا النظام وواقعه المزري لكنه رغم ذلك إختار الدفاع والذود عنه بدلاً من الإنتفاض والثورة عليه هذه الحقيقة أشعرتني بعدم جدوى الحوار معه أو أمثاله فليس أقبح من الظلم والفقر إلاَ رجلُ رضي بهذا الظلم والفقر واقعاً يعيشه وأدهى من ذلك الدفاع والمنافحة عنه,هنا تملكني شعور باليأس لكنني قررت أن أبعت برسالةٍ أخيرةٍ إليه عله يفهم ويتبصر, التفت يمنة نحو أولئك الجنود ثم أشحت ببصري نحو الفندم وتوجهت إليه قائلاً : ( تعرف يافندم الميناء اللي خلفك دا كان في يوم من الأيام ثاني ميناء في العالم كله ولو عمنا علي أشتغل فيه صح وبما يرضي الله كنا أنا وأنت بناكل منه ذهب بس عمنا علي سامحه الله باعه للسرق واللصوص وخلانا أنا وأنت على دي الحال ),

قاطعني أحد الجنود قائلاً : ( بس ليش أنتو أصحاب عدن وحضرموت ما تشتوا تتعسكروا؟..) ,

قلت : ( مين قلك دا الكلام ؟! )

أجابني قائلاً : ( والله ... أنا مابين أبسرت عسكري من عدن واللا حضرموت إلاَ واحد واحد!!..), 

قاطعه الفندم قائلاً : ( أصبر يابني ريع ريع نحنا نشتي أولادنا يعقلوا ويسكنوا ويبطلوا الفوضى والتخريب وعايقع خير,..واللا لأ ياطيب؟ ) 

تجاهلت بأدب سؤال الفندم قائلاً : ( إن شاء الله إن شاءالله...) لكنني لم أكن لأفوت الرد على تساؤل ذلك المجند فأجبته قائلاً : ( تعرف يا فندم ليش أبناء عدن وحضرموت مايتعسكروا ؟ لأن ببساطة ممنوع علينا العسكرة وإذا تقدموا للعسكرة يقبلوا منا حبه بالكرتون عشان كدا أصحابنا مايدوروش العسكرة لأنو داريين النتيجة من قبل... فهمت الآن؟).

هنا رد الفندم مبتسماً وبتهكم واضح : ( لا لا أصدق أنتو أصحاب عدن منتوش حق عسكره ) ثم تبادل هو وبعض الجنود ضحكاتٍ عريضة, هنا أخد الحوار منحى السخرية والإستهزاء تملكني الإحباط وعلمت أن هذا هو منتهى الحوار, 

تبسمت إبتسامةً مقتضبة نحوهم قائلاً : ( يالله في أمان الله يافندم وفرصة سعيدة.. بس لاعادش تفجعونا بالرصاص حقكم كفاية حق أمس ...).

رد الفندم ضاحكاً : ( عادي... دوا أنتو مكنتونا قرييح لليل نهار ماقلناش حاجة ) يقصد أبناء عدن وإفراطهم ومبالغتهم في إستخدام الألعاب النارية والمفرقعات بشكل يومي .

تبسمت مجدداً وقلت : ( يالله سلام عليكم ... في أمان الله).

الفندم وبعض جنوده : ( وعليكم السلام ).

عاودت المسير مبتعداً شيئاً فشيئاً من طقم الأمن نحو منزلي وأنا أحدث نفسي بأسى ( ربما نحتاج لثورة أخرى إلى جانب هذه الثورة لتغير عقلية هؤلاء وأمثالهم فالله المشتكى) ,ثم فجأة وأنا في طريقي صادفني مجند آخر من الأمن وقد توجهه نحوي ببإتسامة عريضة ثم خاطبني قائلاً : ( ماهو..؟!) يقصد مالذي دار بيني وبين الفندم من حوار, فأجبته قائلا : ( لا لا مافيش شي بس سألته عن الضرب حق أمس )

قال : ( ها فزعتوا....).

قلت : ( أكيد بيوتنا فيها نساء وأطفال والقصف فوق راسنا )

أجابني :( أنا داري ياخي مابنسوي أوامر من فوق بس خلاص قدو أوله وآخره) ثم ناولني بعض خراطيش الرصاصات الفارغة من يده قائبلاً : ( بزهم معك )

قلت ضاحكاً : ( إيش أعمل بهم دول..؟!! )

رد هو الآخر ضاحكاً : ( بيعهم وتقرص على بطنك ).

بادلته الضحك قليلاً ثم عاودت المسير نحو وجهتي, لم أجتهد في التفكير كثيراً لأعلم أن الرجل كان يواسيني في مصابي ليلة البارحة وكأنه يريد أن يكفر قليلاً عن ما جناه هو ورفاقه في حقي وحق باقي السكان ,ثم قلت في نفسي مجدداً ( من يدري ربما نحتاج فعلاً لثورة أخرى وربما لا نحتاج ... اليمن فيها الخير ).



عبدالرحمن عليوة
  

 
 



الثلاثاء، 5 مارس 2013

(( مواقف معبرة ))

منذ أن إنصرفت إلى التدوين عبر الإنترنت من خلال مدونتي الإلكترونية قبل أشهر عزفت تماماً عن كتابة المواضيع الشخصية وأكتفيت بكتابة المواضيع العامة والسياسية إلى جانب مشاركاتي الشعرية بين الفينة والأخرى وذلك تصوراً مني أن المواضيع الشخصية ربما تكون غير ملائمة للمشاركة مع الآخرين بقدر المواضيع العامة ,لكن نسبة متابعي مشاركاتي على الشبكة العنكبوتية المتواضعة والتي لم تتعد في أحسن الأحوال المتابع الواحد جعلتني أحيد عن هذا التصور والمعاودة لكتابة الموضوع الشخصي المفضل لدي طبعاً مع كل الإحترام والتقدير لذلك المتابع الوحيد لي أياً كان فاوجوده على كل ٍِ أفضل بكثير مما كان عليه الحال قبلاً حين كانت كتاباتي لا تحظى بمتابع سواي ولاتكاد ترى النور قبل أن يصبح مآلها الأدراج أو تحت أغبرة الرفوف.

إن أغزر فترات الكتابة في حياتي كانت مع بداية ظهور الربيع العربي في تونس وما أعقبه من أحداث فابوجود عامل كبير ومحفز كهذا  يجد الإنسان نفسه أمام كم هائل من الأحداث المهمة والجديرة بتناولها كتابةً خاصةً مع وصول نسائم ذلك الربيع إلى بلدي اليمن ودخولنا في هالة من الأحداث المغايرة والمتسلسلة وأتذكر حينها أن وتيرتي في الكتابة كانت شبه يومية ودون أي رتابةٍ تذكر في إنتقاء المواضيع .

البارحة فقط قررت جمع بعض من تلك الكتابات من أوراق وقصاصات في رفوفي وأدراجي ومن ثم قرائتها من جديد لا أدري لماذا؟ ربما إسترجاعاً لبعض الذكريات أو ربما بحثاً عن عمل كتابي مميز يكون جديراً بالمشاركة مع الآخرين وبالفعل وقعت يدي على بعض القصاصات التي دونت فيها بعض القصص الواقعية أو الأحداث التي عاصرتها ومن ثم وجدت فيها عبرةً أو درساً يستحق الكتابة عنه تمعنت فيها قليلاً متفحصاً إياها ثم أجريت عليها بعض التعديلات البسيطة والرتوش وعزمت جاداً لنشرها في مدونتي على شكل حلقات متتالية وعنونت لها بالعنوان (( مواقف معبرة )) كما قلت فإن معظم هذه القصص عاصرتها بنفسي أو على الأقل حدثت قريباً مني وسنحت لي الفرصة للإطلاع عليها جيداً قبل الكتابة عنها وغالباً فإن مسرح أحداثها هو مدينتي عدن وهي تجمع مابين السرد والحوار القصصي وسأبدأ بعرضها على المدونة تباعاً فأرجو أن تنال إعجابكم وإستحسانكم .


عبدالرحمن عليوة

6/3/2013 م

الاثنين، 4 مارس 2013

                            (( عـــــــــــدن ))

يـــاثغرنــــا وثغرهــــا الباســـم *** يا معدن الأبطال يا أرض الكفـــــــاح

ياروضـــةً وبحرهــــا الهــــادر *** تعانـــق الأمــواج شطئانـــاً مــــــلاح

ياجنتــــي يــــا أرض أسلافـــي *** يامهجة الوجـــدان وسلـــــوة الأرواح

بدمـي عجنت ترابــك الطاهـــر *** وخلطت أنفاسي بعبيرك الفـــــــــواح

الظلم قد أزرى بوجهك الساهـر *** وتخطف الأرواح طلقات الســــــلاح

بالأمس كانت تزهـــو بفرحتهــا ***  ماذا دهى الأفراح حتى غدت أتراح



عبدالرحمن عليوة