أن من أقسى وأصعب مايعانيه المسلم في صلاته وغيرها مما يتعبد لله به من الطاعات هو ذلك الداء الذي ينخر عرى تلك الطاعات فيحيلها هباءاً منثوراً ليصدق فيه قوله جل وعلا كما في سورة الفرقان: (( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا )), ذلك الداء القاتل والمرض العضال هو داء العجب والرياء, وهو أن تعجب النفس بنفسها أنها على طاعة وترائي غير الله من العباد بتلك الطاعة فيختل ميزان القبول وتقدح النية الخالصة فيذهب العمل ويضيع أجره ويقدم العبد إلى ربه يوم القيامة ليجد عمله وقد أضحى هباءاً كهباء الصحراء تنثرثه الرياح في كل صقع, ولكم أخطأ كثيرٌ من العباد إذ ظنوا أنهم يملكون من كفاية العلم مايقوَمون به دينهم وطاعاتهم على الوجه الذي يرضاه رب الجلال ولقد كنت أظن ذلك أيضاً نذراً من الزمن ولم يتطلب الأمر إلاَ درساً واحداً في العقيدة أسمعه بمحض المصادفة ليزول لدي هذا الظن, فيجب علينا جميعاً أن نعلم أن الإنسان حال تعبده لله لا يكون إلاَ على أحد أحوالٍ ثلاث, الأول هو أن يكون في إخلاص تام لله في نيته لهذا العمل, وهذا الأمر يتطلب أصدق القلوب وأخلصها للمولى عز وجل وأنقاها من أدران الشرك والنفاق الأكبر والأصغر كالعجب والرياء والسمعة, والثاني هو أن يكون الإنسان حال تعبده قادحاً قدحاً تاماً في إخلاصه لمولاه بذلك العمل فهو لم يقدم عليه أو يباشره إلاَ لغايةٍ في نفسه من غايات الدنيا كمفازةٍ بعجب أو رياءاً لعبد أو طلباً لحضوةٍ عند حاكمٍ أو سلطان ولقد باء والله بالشر والخسران صاحبه, والثالث هو أن يكون بين هذا وذاك فهو يخلص نيته لمولاه إبتداءاً ثم تدخل عليه أدواء الشيطان من العجب والرياء وغيرها فهو يدافعها وتدافعه لايستسلم لها أو تسلمه, والغالب علينا و على سواد الناس أنهم على هذه الحال من المغالبة والمدافعة حتى تغلب عليهم أحدى الكفتين أو يلقون ربهم وهم يجاهدون مابينهما فإن كان كذلك فهم في خيرٍ إن شاءالله فكل حياة المؤمن أو جلها هي مدافعةٌ للشيطان ومكائده, لكن ماعلاقة الحديث هنا حول هذا الداء بقولة صلى الله عليه وسلم " الصوم جُنَة " ؟, كما عنونت, والجواب هو بين جنبات هذه العبارة النبوية الشريفة ( الصوم جُنَة ), ومعنى جُنًة: هو كل ماستر ووقى من سلاحٍ وغيره ومنه قوله جل وعلا: ((إتخذوا أيمانهم جُنَةً فصدوا عن سبيل الله)) ومن معانيها في الحديث هو الوقاية من الشهوات حين يتعسر الزواج على المسلم و يعضد هذا الفهم حديثٌ آخر قال فيه عليه الصلاة والسلام : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) و معنى وجاء لغةً: أي أشبه بالخصاء, ومعناها إصطلاحاً في الحديث هو: حبس الشهوة وكبحها عن الحرام, والربط مابين الحديثين في المعنى والمراد بهذا الهدي النبوي العظيم صحيحٌ سليم مابين المجمل المعمم في قوله: ( الصوم جُنَة ) ومابين المفصل المخصص في قوله: ( يامعشر الشباب... ), ويبقى الفارق أن المعنى في قوله: ( الصوم جُنَة ) أعم وأشمل لفوائد الصوم, فالصوم حقا هو أعظم مدرسة تربوية تزكي النفس وتطهّر القلب وتقوّم السلوك وتنمّي الفضائل وتنقي الرذائل وفوق ذلك كله فهو خيروقايةٍ للعبد من أدواء العجب والرياء, كل ذلك ينطوي تحت هذه العبارة النبوية الشريفة الجامعة النيّرة بعموم قوله" الصوم جُنَّةٌ" ذلك أن الصوم يختلف عن غيره من سائر العبادات في أنه الأقوى والأشرس في مجابهة أمراض العجب والرياء والنفاق والأقدر على دحرها وإزالتها من قلب العبد فهو كما قال المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه جُنَةٌ و وقايةٌ منها ومن غيرها فلو شك العبد في أعماله ونيَاته أكانت خالصة للمولى عز وجل أم شابها مرض من أمراض العجب والرياء؟ فعليه بالصوم فهو من الأعمال الخُلَص التي يتخلص فيها العبد من أثر من يرقبه من الناس فلا رقيب على مطعمه أومشربه إلاَ نفسه ومولاه سبحانه وهذا أبعد ما يكون عن الرياء والعجب والتصنع وفيه معرفةٌ حقَةٌ للعبد بنفسه ومدى إخلاصها لمولاها بالأعمال والعبادات, ولعل أبلغ ما يدل على هذه الخصوصية لعبادة الصوم هو خصوصية أجرها عند المولى عز وجل فكل عبادةٍ يتعبدها العبد إنما يفعلها لنفسه إلاَ الصوم فهو لله خاصة ولا يعلم أجره إلاَ الله وهو القائل سبحانه كما في الحديث القدسي : (( كل عمل إبن آدم له إلاَ الصيام فهو لي وأنا أجزي به )), وختاماً فلسنا نزكي النفس بمثل هذا المقال فالله وحده يعلم أننا لسنا من أهل الصيام أوأهل القيام ولكن نذكَر به أنفسنا أولاً وإخواننا ثانياً ورب حامل برٍ لمن هو أبرُ منه والله من وراء القصد.
عبدالرحمن عليوة
عبدالرحمن عليوة